قبل الحداثة، كان التصور الميتافيزيقي للكون يقوم على فكرة "سلسلة الوجود الربانية"، ويتخذ كل إنسان موقعه فيها، حتى فكت الحداثة السحر عن هذا العالم. جاءت "الحداثة الصلبة" لتبسط سلطان العقل على الطبيعة المتوحشة، وبعد ذلك سعت لإذابة الإيمان بخلق الله للكون، وفكرة الخلود والحساب والعقاب، والاقتصاد الأخلاقي، والمجتمع التراحمي وبدلته بالمجتمع التعاقدي. وظهر ثالوث العمل/الإنتاج/التراكم، وثالوث العقل/العلم/التقدم، وثالوث الأمة/الدولة/الأرض، وظهرت فئة "أهل التخطيط والتنظيم/عائلة السوبرمان"، يرسمون تصورهم لجنة الخلد على الأرض.
وقعت تحولات جوهرية متداخلة في العالم المتقدم خلقت وضعًا جديدًا لطرق الحياة الفردية.
التحول الأول هو انتقال الحداثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة. وانصهار المؤسسات التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول بمعدل أسرع من الزمن اللازم لتشكلها، أما التحول الثاني فيتمثل في انفصال السلطة والسياسة، وانتقال جانب كبير من سلطة الدولة إلى خارج إطار الدولة. ولهذا لم تعد المؤسسات السياسية للدولة تجذب اهتمام المواطنين. وهذا يشجع مؤسسات الدولة على ترك مهام متعددة كانت تلتزم بها في الماضي، أو كما يقول الساسة: "سأتخذ القرارات على أدنى مستوى محلي ممكن"،والتحول الثالث هو تقليص الضمان الاجتماعي المدعوم من الدولة ضد عجز الأفراد بينما يتلخص التحول الرابع في انهيار التفكير والتخطيط والفعل طويل الأمد. أدى ذلك إلى سلسلة من المشروعات قصيرة الأمد غير مترابطة ولا تصب في أي من مفاهيم التطور/التقدم/النضج التي تستلزم سلسلة مترابطة تتمتع بمسار محدد. وفي التحول الخامس، انتقلت مسؤولية حل المشاكل المعقدة نتيجة الظروف المتغيرة على كاهل أفراد يتوقع منهم أن يكونوا "أحرارًا في اختياراتهم"، ولكن في الواقع المخاطر التي تنتج عن هذه الاختيارات الحرة تتجاوز مقدرة الفرد على تحملها وهو الذي يدفع ثمنها.
في ظل العولمة وكوكب يمتلئ بالكثير من الطرق السريعة لانتقال المعلومات، لا يمكن لأي شيء أن يبقى فضاءً فكريًا، كل أنماط الحياة سواء الكرب أو البذخ تعرضها صور إلكترونية، فلا تقتصر أشكال الظلم على الحرمان النسبي، أو التفاوت النسبي في الأجور.
وفي كوكب مفتوح على الانتقال الحر لرأس المال والسلع، نجد ما يحدث في مكان يؤثر على البشر الذين يعيشون في المناطق الأخرى كافة، فما من شيء يحدث في جزر منعزلة، وما من سعادة في مكان بريئة من شقاء في مكان آخر. وقد أوجز ذلك ميلان كونديرا عندما قال أن وحدة البشرية التي حققتها العولمة تعني بالأساس أنه "لم يعد هناك مكان للهروب إليه".
أوضح (جاك أتالي ) أن أكثر من نصف التجارة العالمية تفيد 22 دولة يعيش بها 14% فقط من سكان العالم، بينما تحصل أفقر 49 دولة يسكنها 11% من سكان العالم على 0.5% من الإنتاج العالمي، وهو ما يساوي دخل أغنى ثلاثة رجال بالعالم، في حين يبقى 90% من الثروة الكلية للكوكب في حوزة 1% من سكانها. وهكذا فبينما تنعم النخبة بعوالم متخيلة، يسقط الفقراء في مستنقع الجريمة والفوضى.
إن الأرض التي نقف عليها رخوة، تمامًا مثل وظائفنا، وشركاء حياتنا، وأصدقائنا. فقد تحولت فكرة التقدم من أمل كبير بتحقيق السعادة للجميع إلى واقع مرير. إننا نفرغ فائض الخوف في بدائل مؤقتة مثل اجتناب التدخين، والسمنة والتعرض للشمس، ونحمي أنفسنا بأسوار عالية وكاميرات مراقبة وحراس مسلحين، ولكن الواقع أن هذه الأعمال تؤكد الخوف الذي بداخلنا، وتساعد على تولده، فكل قفل إضافي نضعه على الباب، وكل نظام غذائي نعدله، يجعل العالم أكثر إثارة للهلع. ويؤكد ستيفن جراهام أن شركات الدعاية والإعلان تستغل ذلك الخوف لتزيد من مبيعاتها. فالخوف مثل الأموال، يمكن استثماره لتحقيق ربح تجاري أو سياسي.
ومع تقلص دور الدولة، وتعجيز الاتحادات العمالية وغيرها من وسائل التفاوض الاجتماعي، أصبح الفرد هو المسؤول وحده عن البحث عن حلول فردية لمشكلات اجتماعية وإيجادها وتنفيذها. ومع انسحاب الدولة من المهمة التي استمدت منها شرعيتها يثار من جديد تساؤلات حول قضية الشرعية. وفي النهاية اقتصر دورها على الحماية من متحرش أو سفاح أو إرهابي، وكل هذه التهديدات مجتمعة في صورة مهاجر غير شرعي تتعهد الدولة الحديثة بالحماية منه.
في دراسة بعنوان (الإرهابي، صديق سلطة الدولة)، يكشف (فيكتور جروتفيش) استغلال ألمانيا الفيدرالية الانتهاكات الإرهابية لجماعة الجيش الأحمر، ففي عام 1976 كانت نسبة المواطنين الذين يعتبرون السلامة الشخصية قضية سياسية كبرى لا تتعدى 7%، وبعد عامين أصبح أغلبية الألمان يرونها أهم من مكافحة البطالة والتضخم. كما وجد أن الروح الليبرالية للدستور الألماني حل محلها خلسة سلطوية الدولة المتوحشة.
قال (دونالد رامسفيلد ) قبل إرسال القوات العسكرية إلى العراق: "إننا سنكسب الحرب عندما يشعر الأمريكيون بالأمان من جديد". وكما كان متوقع، لم يكن عدم الشعور بالأمان الخسارة الوحيدة، بل لقيت الحريات الشخصية والديمقراطية المصير نفسه. كما قتل عشرة آلاف من المدنيين، وأصيب عشرون ألف، وانتشرت البطالة وفشلت القوات العسكرية الأمريكية في تقديم الخدمات العامة الأساسية بسبب غلظتها.
وبرغم "الحرب على الإرهاب" أصبح تنظيم القاعدة أكثر فاعلية بعد أحداث 11 سبتمبر. بل Tن آدم كيرتس يرى أن تنظيم القاعدة لم يكن أكثر من مجرد فكرة غامضة وفضفاضة لوصف "تطهير عالم فاسد من خلال التطرف الديني"، ولم يكن مسمى حتى 2001 عندما قررت الحكومة محاكمة بن لادن، واضطرت إلى وجود تنظيم إجرامي مسمى. وفي واقع الأمر إن الحرب على الإرهاب التي أعلنت بعد الهجوم الإرهابي على مركز التجارة العالمي أسفرت عن وقوع ضحايا تابعين أبرياء تفوق الأعمال الإرهابية نفسها.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان